عنوان الكتاب: عندما يكون الموت اخضرا كالحياة
الاتحاد الوطني الكوردستاني
مكتب تنمية الفكر والتوعية
تاليف: اميرة محمد
دار الطباعة: حمدي
*مر شعب (كردستان ـ العراق ) في تاريخه الحديث بالعديد من المراحل العصيبة، لعل اصعبها المرحلة الفاصلة بين عامي 1968ـ 2003 فخلال هذه المرحلة تعرض الى خطط وسياسات منهجية من قبل النظام العراقي تهدف الى ابادته والقضاء عليه. ولقد وصلت ممارسات نظام بغداد واتسعت الى حد ارتكاب ابشع جرائم الابادة الشاملة في تاريخ الحكم العراقي ضد الشعب الكردي وهي جريمتي الانفال والقصف الكيمياوي لسكان حلبجة وباليسان ووادي جافايتي وبهدينان.
ان الحديث عن هذه الماساة الانسانية يطول ويقف الانسان مذهولا امام مشاهدها المؤلمة، خصوصا حين يخوض في تفاصيلها المتجسدة بممارسات التعذيب وعمليات الاعتقال والاعدام وقطع الاذان والالسن، وصولا الى تدمير اكثر من اربعة الاف قرية كردستانية ودفن اكثر من مائة وثمانون الفا من المواطنين الكرد احياء في مقابر جماعية بصحاري الجنوب، كل هذه الجرائم والممارسات الشنيعة شكلت عنوانا لتاريخ ملئ بالماسي للشعب الكردي يحمل بطياته صورا ومشاهد واحداث وحكايات قد لا يتخيلها احد.
*ان الحكايات التي تروي بين دفتي هذا الكتاب ليست وليدة خيال المؤلفة، بل هي قصص وحكايات حقيقية وثقتها الكاتبة من دون ان تحدد شخصيات الحدث او مكانه وزمانه، لان ما ترويها من احداث تجسد ببساطة واقع كل عائلة بكردستان من سهولها الى جبالها.
*ان الموت الذي يجسد هيبة الارادة وقدسية الفكر ومجد الامة وحرية الناس، هو في الواقع حياة ابدية، انه تبلور قدرة الانسان على العطاء والتضحية والايثار.
*كل قصة من قصص صقور السجون هي ملحمة لا تنسى لحظات اللقاء الاخير، حرارة الانفاس وتوهجها ودموع العناق الاخير قبل لحظات من الاعدام، هذه مشاهد مؤثرة وماساوية لدرجة انها حتى سردها ليس سهلا ابدا، لكن تاريخ شهداء الاتحاد الوطني الكردستاني وذكريات اسرهم الكريمة والمضحية هي اكثر قيمة واهمية من هذه المشاهد المفجعة الماساوية المؤثرة. وطالما مضى التاريخ فان هذه الذكريات الاليمة هي مشاهد حية وحيوية في قلب ووجدان الشعب الكردي.
*الهدف الاول والاهم هو ابقاء ذكرى الشجاعة الاسطورية وتضحيات الشهداء واسرهم المجيدة حية.
*اخبرتني اخت:
انهيت دراستي الثانوية وتم قبولي في قسم اللغة الانجليزية في جامعة الموصل. خائن كردي كان رفيقا حزبيا في حينا، اخبر مديرية الامن ان شقيقي من البشمركة وقد اعدم. حذفوا اسمي من القائمة وحرموني من الذهاب الى الجامعة.
*اخذوا ابني ولم اقابله مرة اخرى. مازلت في انتظار عودته. في كل صباح باكر عندما استيقظ للصلاة، افتح الباب وارتب له مناما بجوار منامي، اقول لنفسي انه حينما يعود، يعود منهكا، فلينم، وانا سوف اشم انفاسه.
*اعتقلنا جميعا بسبب زوجي الذي كان من البشمركة. اخذونا الى السجن الرئيسي في السليمانية ثم الى الناصرية. هناك انجبت ولدا اطلقنا عليه اسم( بندي ) ويعني ( الاسير ). ذات يوم، كان السجناء حزينين بشكل غير عادي وعندما سالت عن السبب، قالوا انهم يبكون على وضعهم السئ. بعدها صدر عفو عام وافرج عنا. بمجرد وصولي الى السليمانية، سالت عن زوجي وعلمت انه استشهد. ادركت ان النزلاء في السجن كانوا يعرفون الخبر واخفوه عني. اتمنى لو كنت ميتة ولم اسمع هذا الخبر ابدا.
*قي وصيته كتب اخي الاكبر: عندما تحرر كردستان، انقلوا جسدي الى السليمانية. وبعد انتفاضة 1991 ، حققنا وصيته، واستعدنا ـ عبر الاتحاد الوطني الكردستاني، الفرع الاول في السليمانيةـ رفاتسبعة وثلاثين سجينا اعدموا في الموصل.
*قالوا ان النظام سيشن حملة اعتقالات، كنت اعمل حارسا ليليا في مدرسة. اخبرت ابني ان اسمه على الارجح مدرج في قائمة الاعتقال. علمت انه كان يكتب شعارات على الجدران وكان عمره بالكاد سبعة عشر عاما. طلبت منه ان يمكث معي في المدرسة لانهم لا يقتحمونها. نمنا وفي الصباح الباكر طرقوا الباب واعتقلوا ابني، صرخ: ابي ... يا لها من صرخة! صراخة نار تحرق روحي ما دمت حيا. لكني اقسم انني سادعم الاتحاد الوطني الكردستاني حتى الموت.
*قالت امراة:
كان زوجي مسجونا في سجن( ابو غريب )، ووالد زوجي مسجونا في السماوة، وشقيق زوجي مسجونا في مسلخ الموصل، كنت مضطرة لرعاية حماتي ومجموعة من الاطفال. عندما قمت بزيارتهم في هذه السجون المختلفة، كنت اقوم بنقل الرسائل سرا وكان علي ان اخفي عن زوجي وشقيقه اعتقال والدهم. عملت في مزارع الناس، فكروا في امراة قروية فقيرة عاجزة ! في الزيارة الاخيرة الى شقيق زوجي، جمعت فلتر السجائر الخاص به واحتفطت به حتى الان. والبعض يقول ان المراة ضعيفة!.
*لقد اعدموا ابني وقدموا لنا شهادة الوفاة، هددونا بعدم اقامة مراسم العزاء له. كان لديه ابن خال له اربعة ابناء جميعهم من البشمركة، قال : اني ساقيم مراسم العزاء في منزلي مضحيا بحياتي وحياة ابنائي، وقد فعل.
*كان اخي في السابعة عشرة من عمره عندما اعدم. عندما اعيدنا جثته، اصيب والدي بنوبة قلبية وتوفي في طريقنا الى المستشفى. قمنا بدفنهما معا.
*لقد ابلغونا ان الزيارة الاخيرة ستكون الساعة الرابعة عصرا الاثنين المقبل في ( ابو غريب )، عندما وصلنا اعطونا شهادة وفاته، من يدري كم انتظر تحية بسيطة منا؟!.
*للافراج عن ابني، بعت منزلي ، وسجادي، وادوات مائدة وسماور وغنم، اعطيت كل هذه الاموال رشاوي للخونة الكرد، حتى انهم لم يرتبو لي زيارة للقائه، فاعدموه دون ان احضنه وابلغه تحيات الجميع.
*تلقيت اخطارا من مديرية الامن لاستلام جثة اخي، ذهبت الى هناك واخذني شرطي الى المشرحة، كانت قاعة كبيرة بها الكثير من الادراج، قلت: اين جثة اخي؟ قال : ابحث . يا له من مشهد! اخيرا وجدت اخي وقد تحول جسده الى جليد، طلبت من الشرطي مساعدتي فقال: انها ليست وظيفته. اخرجته من الدرج وانزلقت جثته من يدي، لا اعرف كيف بقيت على قيد الحياة!
اعدك يا اخي العزيز بانني لن اتخلى عن طريقك ابدا.
*اعدم اخي واربعة من اصدقائه علانية في محلة ( سرجنار ) رميا بالرصاص. كذالك اعتقلوا والدتي وابي واخوتي ونقلوهم الى الهيئة الخاصة في كركوك. فاعدم جميعهم بامر من (علي حسن المجيد) وذالك يقطع رؤوسهم.
فكيف اتخلى عن طريق كفاحهم؟!
*جاءت القوات الخاصة واخذ جميعنا الى السجن. فصلوا الرجال عن النساء. دمروا منزلنا وطردونا من اعمالنا. واخذوا ابني الى مكان مجهول. كيف يقبل الله هذا الظلم؟!
*بعد اثنين وعشرين عاما اعدنا جثته من الموصل، لم تكن والدتي متاكدة مما اذا كان الجسد له. كان ( الملازم عمر ) صديقه المقرب، وقال: لقد فقد اثنين من اسنانه الخلفية. فحصنا بقايا الجثة وتاكدنا من فقد اسنانه، واصبحت والدتي مرتاحة.
حتى وفاتها، كانت والدتي ترتاد المقبرة كل يوم وهي تبكي وتصرخ.
*كان لزوجي صوت جميل للغناء، استغل هذه الموهبة، كلما سمع خبرا داخل السجن، يخبر الرفاق الاخرين به عن طريق الغناء.
اه لهذا البطل، كان مناضلا وبقي مستمرا في كفاحه لحين اعدامه.
*عندما رايت ابني مكبل اليدين في زيارتنا الاخيرة للسجن، ضعفت ركبتي واغمي علي. عندما استيقظت كان راسي في حضنه. قال: امي الحبيبة! هذه اخر مرة اطلب شيئا فلا ترفضي طلبي، خذي قطعة القماش الحمراء وارقصي، لا تدعي العدو يسعد. لا افهم القوة التي منحها الله لي في تلك اللحضة، وقفت وبدات ارقص. ثم رددنا نشيد (اي رقيب) معا. العدو تعرض للاهانة لكنهم لم يجرؤوا على النطق بكلمة، خافوا من غضبنا ورد فعلنا. ثم قال لي ابني: امي الحبيبة، كان هذا اعلى وسام منحتيني اياه، ثم عانقني بحرارة وغادر.
تمنيت ان اموت في تلك اللحضة.
*امي الحبيبة: نحن فخورون بك. لقد انجبتنا، ورفعتني انا واخوتي الثلاثة بشكل عظيم لدرجة اننا جميعا هنا لنضع بايدينا حبل الاعدام حول اعناقناباسم كردستان.
*بعد عام من استلامنا شهادة وفاة ابننا، تلقينا ثلاث رسائل منه، اصبحنا سعداء للغاية وبدانا في البحث عنه، لكننا لم نجد شئا، نحن مازلنا ننتظر...
* بعد صدور قرار المحكمة بحق الاطفال قي الهيئة الخاصة في كركوك، ارسلوا الى سجن الاحداث، وفي طريقهم احرقوا حافلتهم وهم في داخلها.
*ذهبنا لزيارته في السجن، قال ابني: امي الحبيبة، انشاء الله سيعلنون العفو قبل العيد، وعندما يطلق سراحي سانضم فورا الى البشمركة في الجبال.
يا للاسف! ان رغبته لم تتحقق ولم نعثر على اي اثر له حتى الان.
*ان الطريق الذي اخترناه انا ورفاقي، طريق صعب. اذا اعدمنا فنحن بخير، لاننا نعرف ما زرعناه وما ستحصده امتنا فيما بعد. يولد كل شخص مرة واحدة ويموت مرة واحدة. لا تسعدوا اعداءنا ولا تبكوا ولا تلبسوا الثياب السود.
بابەتی زیاتر